وإليك هذه الأصول المنهجية في مذهبهم موجزة وميسرة ما أمكن - عدا أقوالهم في الصفات وعدا الفرعيات التي لا تدخل تحت حصر - مع التنبيه مقدماً إلى ما بينها من تناقض لا يخفى على القارئ الفطن.
  1. الأول مصدر التلقي

    أ- مصدر التلقي عند الأشاعرة هو العقل، وقد صرح الجويني والرازي والبغدادي والغزالي والآمدي والإيجي وابن فورك والسنوسي وشراح الجوهرة وسائر أئمتهم بتقديم العقل على النقل عند التعارض، وعلى هذا جرى المعاصرون منهم، ومن هؤلاء السابقين من صرح بأن الأخذ بظواهر الكتاب والسنة أصل من أصول الكفر وبعضهم خففها فقال: هو أصل الضلالة!!
    ولضرورة الاختصار أكتفي بمثالين مع الإحالة إلى ما في الحاشية لمن أراد المزيد:
    الأول: وضع الرازي في أساس التقديس القانون الكلي للمذهب في ذلك فقال: ''الفصل الثاني والثلاثون في أن البراهين العقلية إذا صارت معارضة بالظواهر النقلية فكيف يكون الحال فيها؟
    اعلم أن الدلائل القطعية العقلية إذا قامت على ثبوت شيء ثم وجدنا أدلة نقلية يشعر ظاهرها بخلاف ذلك فهناك لا يخلو الحال من أحد أمور أربعة:
    1- إما أن يصدق مقتضى العقل والنقل فيلزم تصديق النقيضين وهو محال.
    2- وإما أن يبطل فيلزم تكذيب النقيضين وهو محال.
    3- وإما أن يصدق الظواهر النقلية ويكذب الظواهر العقلية وذلك باطل. لأنه لا يمكننا أن نعرف صحة الظواهر النقلية إلا إذا عرفنا بالدلائل العقلية إثبات الصانع وصفاته وكيفية دلالة المعجزة على صدق الرسول صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وظهور المعجزات على يد محمد صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ.
    ولو جوزنا القدح في الدلائل العقلية القطعية صار العقل متهماً غير مقبول القول، ولو كان كذلك لخرج أن يكون مقبول القول في هذه الأصول، وإذا لم تثبت هذه الأصول خرجت الدلائل النقلية عن كونها مفيدة.
    فثبت أن القدح في العقل لتصحيح النقل يفضي إلى القدح في العقل والنقل معاً وأنه باطل، ولما بطلت الأقسام الأربعة لم يبق إلا أن يقطع بمقتضى الدلائل العقلية القاطعة بأن هذه الدلائل النقلية إما أن يقال أنها غير صحيحة. أو يقال: إنها صحيحة إلا أن المراد منها غير ظواهرها.
    ثم إن جوزنا التأويل اشتغلنا على سبيل التبرع بذكر تلك التأويلات على التفصيل.
    وإن لم يجز التأويل فوضنا العلم بها إلى الله تعالى. فهذا هو القانون الكلي المرجوع إليه في جميع المتشابهات وبالله التوفيق" اهـ.
    الثاني: يقول السنوسي [ت 885] في شرح الكبرى:
    ''وأما من زعم أن الطريق بَدْأً إلى معرفة الحق الكتابُ والسنةُ ويحرم ما سواهما، فالرد عليه أن حجتيهما لا تعرف إلا بالنظر العقلي، وأيضاً فقد وقعت فيهما ظواهر من اعتقدها على ظاهرها كفر عند جماعة وابتدع''.
    ويقول: ''.. أصول الكفر ستة.. ذكر خمسة ثم قال:
    سادساً: التمسك في أصول العقائد بمجرد ظواهر الكتاب والسنة، من غير عرضها على البراهين العقلية والقواطع الشرعية''.
    ب- صرح متكلموهم -ومنهم من سبق في فقرة "أ" أن نصوص الكتاب والسنة ظنية الدلالة، ولا تفيد اليقين إلا إذا سلمت من عشرة عوارض.
    منها: الإضمار والتخصيص والنقل والاشتراك والمجاز... إلخ، وسلمت بعد هذا من المعارض العقلي، بل قالوا: من احتمال المعارض العقلي!!
    ج- موقفهم من السنة خاصة أنه لا يثبت بها عقيدة، بل المتواتر منها يجب تأويله وآحادها لا يجب الاشتغال بها حتى على سبيل التأويل، حتى إن إمامهم الرازي قطع بأن رواية الصحابة كلهم مظنونة بالنسبة لعدالتهم وحفظهم سواء، وأنه في الصحيحين أحاديث وضعها الزنادقة.. إلى آخر مالا أستجيز نقله لغير المختصين، وهو في كتابه أساس التقديس والأربعين.
    د- تقرأ في كتب عقيدتهم قديماً وحديثاً المائة صفحة أو أكثر، فلا تجد فيها آية ولا حديثاً لكنك قد تجد في كل فقرة "قال الحكماء" أو "قال المعلم الأول" أو " قالت الفلاسفة " ونحوها..
    هـ- مذهب طائفة منهم وهم صوفيتهم -كـالغزالي والجامي- في مصدر التلقي هو تقديم الكشف والذوق على النص وتأويل النص ليوافقه، وقد يصححون بعض الأحاديث ويضعفونها حسب هذا الذوق كحديث إسلام أبوي النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ودخولهما الجنة بزعمهم.
    ويسمون هذا "العلم اللدني" جرياً على قاعدة الصوفية " حدثني قلبي عن ربي".
  2. الثاني إثبات وجود الله

    معلوم أن مذهب السلف هو أن وجوده تعالى أمر فطري معلوم بالضرورة، والأدلة عليه في الكون والنفس والآثار والآفاق والوحي أجل من الحصر، ففي كل شيء له آية وعليه دليل.
    أما الأشاعرة فعندهم دليل يتيم هو دليل: الحدوث والقدم.
    وهو الاستدلال على وجود الله بأن الكون حادث، وكل حادث فلا بد له من محدث قديم، وأخص صفات هذا القديم مخالفته للحوادث وعدم حلولها فيه ومن مخالفته للحوادث إثبات أنه ليس جوهراً ولا عرضاً ولا جسماً ولا في جهة ولا مكان.. إلخ.
    ثم أطالوا جداً في تقرير هذه القضايا، هذا وقد رتبوا عليه من الأصول الفاسدة ما لا يدخل تحت العد مثل إنكارهم لكثير من الصفات كالرضا والغضب والاستواء بشبهة نفي حلول الحوادث في القديم، ونفي الجوهرية والعرضية والجهة والجسمية.. إلى آخر المصطلحات البدعية التي جعلوا نفيها أصولاً وأنفقوا الأعمار والمداد في شرحها ونفيها.
    ولو أنهم قالوا: الكون مخلوق، وكل مخلوق لابد له من خالق؛ لكان أيسر وأخصر مع أنه ليس الدليل الوحيد؛ ولكنهم تعمدوا موافقة الفلاسفة حتى في ألفاظهم.
  3. الثالث التوحيد

    التوحيد عند أهل السنة والجماعة معروف بأقسامه الثلاثة، وهو عندهم أول واجب على المكلف.
    أما الأشاعرة -قدماؤهم ومعاصروهم- فالتوحيد عندهم هو نفي التثنية أو التعدد، ونفي التبعيض والتركيب والتجزئة أي حسب تعبيرهم " نفي الكمية المتصلة والكمية المنفصلة " ومن هذا المعنى فسروا الإله بأنه الخالق أو القادر على الاختراع وأنكروا بعض الصفات كالوجه واليد والعين لأنها تدل على التركيب والأجزاء عندهم.
    أما التوحيد الحقيقي وما يقابله من الشرك ومعرفته والتحذير منه فلا ذكر له في كتب عقيدتهم إطلاقاً، ولا أدري أين يضعونه أفي كتب الفروع؟ فليس فيها.
    أم يتركونه بالمرة؟ فهذا الذي أجزم به.
    أما أول واجب عند الأشاعرة فهو النظر أو القصد إلى النظر أو أول جزء من النظر أو... إلى آخر فلسفتهم المختلف فيها، وعندهم أن الإنسان إذا بلغ سن التكليف وجب عليه النظر ثم الإيمان، واختلفوا فيمن مات قبل النظر أو في أثنائه، أيحكم له بالإسلام أم بالكفر؟!
    وينكر الأشاعرة المعرفة الفطرية ويقولون: إن من آمن بالله بغير طريق النظر فإنما هو مقلِّد، ورجح بعضهم كفره واكتفى بعضهم بتعصيته، وهذا ما خالفهم فيه الحافظ ابن حجر رحمه الله ونقل أقوالاً كثيرة في الرد عليهم وأن لازم قولهم تكفير العوام بل تكفير الصدر الأول. .
  4. الرابع الإيمان

    الأشاعرة في الإيمان مرجئة جهمية أجمعت كتبهم قاطبة على أن الإيمان هو التصديق القلبي.
    واختلفوا في النطق بالشهادتين أيكفي عنه تصديق القلب أم لابد منه، قال صاحب الجوهرة:
    وفسر الإيمان بالتصديقِ            والنطق فيه الخلف بالتحقيقِ
    وقد رجح الشيخ حسن أيوب من المعاصرين أن المصدق بقلبه ناج عند الله وإن لم ينطق بهما ومال إليه البوطي.
    فعلى كلامهم لا داعي لحرص النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أن يقول عمه أبو طالب [لا إله إلا الله]؛ لأنه لا شك في تصديقه له بقلبه، وهو ومن شابهه على مذهبهم من أهل الجنة!!
    هذا وقد أولوا كل آية أو حديث ورد في زيادة الإيمان ونقصانه أو وصف بعض شعبه بأنها إيمان أو من الإيمان. .
    ولهذا أطال شَيْخ الإِسْلامِ رحمه الله الرد عليهم بأسمائهم كـالأشعري والباقلاني والجويني وشراح كتبهم وقرر أنهم على مذهب جهم بعينه.
    وفي رسالتي فصل طويل عن هذه القضية فلا أطيل بها هنا.
  5. الخامس القرآن

    وقد أفردت موضوعه لأهميته القصوى، وهو نموذج بارز للمنهج الأشعري القائم على التلفيق الذي يسميه الأشاعرة المعاصرون "التوفيقية" حيث انتهج التوسط بين أهل السنة والجماعة وبين المعتزلة في كثير من الأصول فتناقض واضطرب.
    فمذهب أهل السنة والجماعة أن القرآن كلام الله غير مخلوق، وأنه تعالى يتكلم بكلام مسموع تسمعه الملائكة وسمعه جبريل وسمعه موسى عليه السلام ويسمعه الخلائق يوم القيامة.
    ومذهب المعتزلة أنه مخلوق.
    أما مذهب الأشاعرة فمن منطلق التوفيقية -التي لم يحالفها التوفيق- فرقوا بين المعنى واللفظ.
    فالكلام الذي يثبتونه لله تعالى هو معنى أزلي أبدي قائم بالنفس ليس بحرف ولا صوت ولا يوصف بالخبر ولا الإنشاء.
    واستدلوا بالبيت المنسوب للأخطل النصراني:
    إنَّ الكلامَ لفِي الفؤادِ وإنَّما            جُعْلِ اللسانُ على الفؤادِ دليلاً
    أما الكتب المنزلة ذات الترتيب والنظم والحروف - ومنها القرآن - فليست هي كلامه تعالى على الحقيقة بل هي "عبارة" عن كلام الله النفسي.
    والكلام النفسي شيء واحد في ذاته لكن إذا جاء التعبير عنه بالعبرانية فهو توراة، وإن جاء بالسريانية فهو إنجيل، وإن جاء بالعربية فهو قرآن، فهذه الكتب كلها مخلوقة ووصفها بأنها كلام الله مجازٌ لأنها تعبير عنه.
    واختلفوا في القرآن خاصة فقال بعضهم: إن الله خلقه أولاً في اللوح المحفوظ ثم أنزله في صحائف إلى سماء الدنيا، فكان جبريل يقرأ هذا الكلام المخلوق ويبلغه لمحمد صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ.
    وقال آخرون: إن الله أفهم جبريل كلامه النفسي، وأفهمه جبريل لمحمد صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فالنزول نزول إعلام وإفهام لا نزول حركة وانتقال [لأنهم ينكرون علو الله] ثم اختلفوا في الذي عبر عن الكلام النفسي بهذا اللفظ والنظم العربي من هو؟
    فقال بعضهم: هو جبريل، وقال بعضهم: بل هو محمد صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ.!!
    واستدلوا بمثل قوله تعالى: ((إِنَّهُ لَقَوْلُ رَسُولٍ كَرِيمٍ))[الحاقة:40] في سورتي الحاقة والتكوير، حيث أضافه في الأولى إلى محمد صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وفي الأخرى إلى جبريل بأن اللفظ لأحد الرسولين "جبريل أو محمد" وقد صرح الباقلاني بالأول وتابعه الجويني.
    قال شَيْخ الإِسْلامِ: ''وفي إضافته تعالى إلى الرسول تارة وإلى هذا تارة دليل على أنه إضافة بلاغ وأداء لا إضافة إحداث لشيء منه أو إنشاء كما يقول بعض المبتدعة الأشعرية من أن حروفه ابتداء جبريل أو محمد مضاهاة منهم في نصف قولهم لمن قال: إنه قول البشر من مشركي العرب''.
    وعلى القول بأن القرآن الذي نقرؤه في المصاحف مخلوق سار الأشاعرة المعاصرون وصرحوا، فكشفوا بذلك ما أراد شارح الجوهرة أن يستره حين قال: ''يمتنع أن يقال إن القرآن مخلوق إلا في مقام التعليم''.
  6. السادس القدر

    أراد الأشاعرة هنا أن يوفقوا بين الجبرية والقدرية فجاءوا بنظرية الكسب وهي في مآلها جبرية خالصة لأنها تنفي أيَّ قدرة للعبد أو تأثير.
    أما حقيقتها النظرية الفلسفية فقد عجز الأشاعرة أنفسهم عن فهمها فضلاً عن إفهامها لغيرهم ولهذا قيل:
    مما يقال ولا حقيقة تحته             معقولة تدنو إلى الأفهام
    الكسب عند الأشعري والحال عند البـ            هشمي وطفرة النظام
    ولهذا قال الرازي الذي عجز هو الآخر عن فهمها: ''إن الإنسان مجبور في صورة مختار''.
    أما البغدادي فأراد أن يوضحها فذكر مثالاً لأحد أصحابه في تفسيرها شبه فيه اقتران قدرة الله بقدرة العبد مع نسبة الكسب إلى العبد ''بالحجر الكبير قد يعجز عن حمله رجل ويقدر آخر على حمله منفرداً به فإذا اجتمعا جميعاً على حمله كان حصول الحمل بأقواهما، ولا خرج أضعفهما بذلك عن كونه حاملاً''.
    وعلى مثل هذا المثال الفاسد يعتمد الجبرية وبه يتجرأ القدرية المنكرون، لأنه لو أن الأقوى من الرجلين عذب الضعيف وعاقبه على حمل الحجر فإنه يكون ظالماً باتفاق العقلاء؛ لأن الضعيف لا دور له في الحمل، وهذه المشاركة الصورية لا تجعله مسئولاً عن حمل الحجر.
    والإرادة عند الأشاعرة معناها [المحبة والرضا] وأولوا قوله تعالى: ((وَلا يَرْضَى لِعِبَادِهِ الْكُفْرَ))[الزمر:7] بأنه لا يرضاه لعباده المؤمنين!
    فبقي السؤال وارداً عليهم: وهل رضيه للكفار أم فعلوه وهو لم يرده؟
    وفعلوا بسائر الآيات مثل ذلك، ومن هذا القبيل كلامهم في الاستطاعة.
    والحاصل أنهم في هذا الباب خرجوا عن المنقول والمعقول ولم يعربوا عن مذهبهم فضلاً عن البرهنة عليه!!
  7. السابع السببية وأفعال المخلوقات

    ينكر الأشاعرة الربط العادي بإطلاق، وأن يكون شيءٌ يؤثر في شيء، وأنكروا كل "باء سببية" في القرآن، وكفروا وبدعوا من خالفهم.
    ومأخذهم فيها هو مأخذهم في القدر، فمثلاً عندهم من قال: إن النار تحرق بطبعها أو هي علة الإحراق فهو كافر مشرك؛ لأنه لا فاعل عندهم إلا الله مطلقاً، حتى إن أحد نحاة الأندلس من دولة الموحدين التومرتية الأشعرية هدم [نظرية العامل] عند النحاة مدعياً أن الفاعل هو الله!!
    ومن قال عندهم: إن النار تحرق بقوة أودعها الله فيها فهو مبتدع ضال، قالوا: إن فاعل الإحراق هو الله؛ ولكن فعله يقع مقترناً بشيء ظاهري مخلوق، فلا ارتباط عندهم بين سبب ومسبب أصلاً، وإنما المسألة اقتران كاقتران الزميلين من الأصدقاء في ذهابهما وإيابهما.
    ومن متونهم في العقيدة:
    والفعل في التأثير ليس إلا            للواحد القهار جل وعلا
    ومن يقل بالطبع أو بالعلة            فذاك كفر عند أهل الملة
    ومن يقل بالقوة المودعة            فذاك بدعي فلا تلتفت
    والغريب أن هذا هو مذهب ما يسمى المدرسة الوضعية من المفكرين الغربيين المحدثين ومن وافقهم من ملاحدة العرب، وما ذاك إلا لأن الأشاعرة والوضعيين كليهما ناقل عن الفكر الفلسفي الإغريقي.
  8. الثامن: الحكمة والغائية

    ينفي الأشاعرة قطعاً أن يكون لشيء من أفعال الله تعالى علة مشتملة على حكمة تقضي إيجاد ذلك الفعل أو عدمه، وهذا نص كلامهم تقريباً، وهو رد فعل لقول المعتزلة بالوجوب على الله؛ حتى أنكر الأشاعرة كل لام تعليل في القرآن، وقالوا: إن كونه يفعل شيئاً لعلة ينافي كونه مختاراً مريداً.
    وهذا الأصل تسميه بعض كتبهم "نفي الغرض عن الله" ويعتبرونه من لوازم التنـزيه، وجعلوا أفعاله تعالى كلها راجعة إلى محض المشيئة ولا تعلق لصفة أخرى -كالحكمة مثلاً- بها، ورتبوا على هذا أصولاً فاسدة كقولهم بجواز أن يخلد الله في النار أخلص أوليائه، ويخلد في الجنة أفجر الكفار، وجواز التكليف بما لا يطاق ونحوها.
    وسبب هذا التأصيل الباطل عدم فهمهم ألا تعارض بين المشيئة والحكمة أو المشيئة والرحمة.
    ولهذا لم يثبت الأشاعرة الحكمة مع الصفات السبع واكتفوا بإثبات الإرادة، مع أن الحكمة تقتضي الإرادة والعلم وزيادة، حتى إن من المعاصرين من أضافها مثل سعيد حوى.
  9. التاسع: النبوات

    يختلف مذهب الأشاعرة عن مذهب أهل السنة والجماعة في النبوات اختلافاً بعيداً، فهم يقررون أن إرسال الرسل راجعٌ للمشيئة المحضة -كما في الفقرة السابقة- ثم يقررون أنه لا دليل على صدق النبي إلا المعجزة، ثم يقررون أن أفعال السحرة والكهان من جنس المعجزة لكنها لا تكون مقرونةً بادعاء النبوة والتحدي، قالوا: ولو ادعى الساحر أو الكاهن النبوة لسلبه الله معرفة السحر رأساً وإلا كان هذا إضلالاً من الله وهو يمتنع عليه الإضلال.. إلى آخر ما يقررونه مما يخالف المنقول والمعقول، ولضعف مذهبهم في النبوات مع كونها من أخطر أبواب العقيدة إذ كل أمورها متوقفة على ثبوت النبوة أغروا أعداء الإسلام بالنيل منهم واستطال عليهم الفلاسفة والملاحدة.
    والصوفية منهم كـالغزالي يفسرون الوحي تفسيراً قرمطياً فيقولون: هو انتقاش العلم الفائض من العقل الكلي في العقل الجزئي.
    أما في موضوع العصمة فينكرون صدور الذنب عن الأنبياء، ويؤولون الآيات والأحاديث الكثيرة تأويلاً متعسفاً متكلفاً كالحال في تأويلات الصفات.
  10. العاشر: التحسين والتقبيح

    ينكر الأشاعرة أن يكون للعقل والفطرة أي دور في الحكم على الأشياء بالحسن والقبح، ويقولون: مرد ذلك إلى الشرع وحده، وهذا رد فعل مغال لقول البراهمة والمعتزلة: إن العقل يوجب حسن الحسن وقبح القبيح، وهو مع منافاته للنصوص مكابرة للعقول، ومما يترتب من الأصول الفاسدة على قولهم: أن الشرع قد يأتي بما هو قبيح في العقل، فإلغاء دور العقل بالمرة أسلم من نسبة القبح إلى الشرع!
    ومثلوا ذلك بذبح الحيوان فإنه إيلام له بلا ذنب وهو قبيح في العقل ومع ذلك أباحه الشرع، وهذا في الحقيقة هو قول البراهمة الذين يحرمون أكل الحيوان.
    فلما عجز هؤلاء عن رد شبهتهم ووافقوهم عليها أنكروا حكم العقل من أصله، وتوهموا أنهم بهذا يدافعون عن الإسلام.
    كما أن من أسباب ذلك مناقضة أصل من قال بوجوب الثواب والعقاب على الله بحكم العقل ومقتضاه.
  11. الحادي عشر: التأويل

    ومعناه المبتدع: صرف اللفظ عن ظاهره الراجح إلى احتمال مرجوح لقرينة، فهو بهذا المعنى تحريف للكلام عن مواضعه كما قرر ذلك شَيْخ الإِسْلامِ.
    وهو أصل منهجي من أصول الأشاعرة، وليس هو خاصاً بمبحث الصفات بل يشمل أكثر نصوص الإيمان خاصة ما يتعلق بإثبات زيادته ونقصانه وتسمية بعض شعبه إيماناً ونحوها، وكذا بعض نصوص الوعد والوعيد وقصص الأنبياء خصوصاً موضوع العصمة، وبعض الأوامر التكليفية أيضاً.
    وضرورته لمنهج عقيدتهم أصلها أنه لما تعارضت عندهم الأصول العقلية التي قرروها بعيداً عن الشرع مع النصوص الشرعية؛ وقعوا في مأزق رد الكل أو أخذ الكل فوجدوا في التأويل مهرباً عقلياً ومخرجاً من التعارض الذي اختلقته أوهامهم، ولهذا قالوا: إننا مضطرون للتأويل وإلا أوقعنا القرآن في التناقض. وإن الخلف لم يؤولوا عن هوىً ومكابرة وإنما عن حاجة واضطرار، فأي تناقض في كتاب الله يا مسلمون نضطر معه إلى رد بعضه أو الاعتراف للأعداء بتناقضه؟!
    وقد اعترف الصابوني بأن في مذهب الأشاعرة "تأويلات غريبة" فما المعيار الذي عرف به الغريب من غير الغريب؟
    وهنا لا بد من زيادة التأكيد على أن مذهب السلف لا تأويل فيه لنص من النصوص الشرعية إطلاقاً، ولا يوجد نص واحد -لا في الصفات ولا غيرها- اضطر السلف إلى تأويله ولله الحمد.
    وكل الآيات والأحاديث التي ذكرها الصابوني وغيره تحمل في نفسها ما يدل على المعنى الصحيح الذي فهمه السلف منها، والذي يدل على تنزيه الله تعالى دون أدنى حاجة إلى التأويل.
    أما التأويل في كلام السلف فله معنيان:
    [1] التفسير: كما تجد في تفسير الطبري ونحوه "القول في تأويل هذه الآية" أي: تفسيرها.
    [2] الحقيقة التي يصير إليها الشيء: كما في قوله تعالى: ((هَذَا تَأْوِيلُ رُؤْيايَ مِنْ قَبْلُ))[يوسف:100] أي تحقيقها، وقوله: ((يَوْمَ يَأْتِي تَأْوِيلُهُ))[الأعراف:53] أي: تحقيقه ووقوعه.
    أما التأول فله مفهوم آخر: راجع الحاشية.
    وإن تعجب فاعجب لهذه اللفظة النابية التي يستعملها الأشاعرة مع النصوص وهي: أنها [توهم] التشبيه ولهذا وجب تأويلها، فهل في كتاب الله إيهام أم أن العقول الكاسدة تتوهم والعقيدة ليست مجال توهم!!
    فالعيب ليس في ظواهر النصوص -عياذاً بالله- ولكنه في الأفهام بل الأوهام السقيمة.
    أما دعوى أن الإمام أحمد استثنى ثلاثة أحاديث وقال: لابد من تأويلها، فهي فرية عليه افتراها الغزالي في [الإحياء، وفيصل التفرقة] ونفاها شَيْخ الإِسْلامِ سنداً ومتناً.
    وحسب الأشاعرة في باب التأويل ما فتحوه على الإسلام من شرور بسببه فإنهم لما أولوا ما أولوا تبعتهم الباطنية واحتجت عليهم في تأويل الحلال والحرام والصلاة والصوم والحج والحشر والحساب، وما من حجة يحتج بها الأشاعرة عليهم في الأحكام والآخرة إلا احتج الباطنية عليهم بمثلها أو أقوى منها من واقع تأويلهم للصفات.
    وإلا فلماذا يكون تأويل الأشاعرة لعلو الله -الذي تقطع به العقول والفطر والشرائع- تنزيهاً وتوحيداً وتأويل الباطنية للبعث والحشر كفراً وردةً؟!
    أليس كل منهما رداً لظواهر النصوص مع أن نصوص العلو أكثر وأشهر من نصوص الحشر الجسماني؟.
    ولماذا يكفّر الأشاعرةُ الباطنيةَ ثم يشاركونهم في أصل من أعظم أصولهم؟
  12. الثاني عشر: السمعيات

    يقسم الأشاعرة أصول العقيدة بحسب مصدر التلقي إلى ثلاثة أقسام:
    ا- قسم مصدره العقل وحده وهو معظم الأبواب ومنه باب الصفات ولهذا
    يسمون الصفات السبع "عقلية" وهذا القسم هو "ما يحكم العقل بوجوبه"، دون توقف على الوحي عندهم.
    2- قسم مصدره العقل والنقل معاً كالرؤية -على خلاف بينهم فيها- وهذا القسم هو" ما يحكم العقل بجوازه " استقلالاً أو بمعاضدة الوحي.
    3- قسم مصدره النقل وحده وهو السمعيات أي المغيبات من أمور الآخرة كعذاب القبر والصراط والميزان وهو عندهم: ما لا يحكم العقل باستحالته لكن لو لم يرد به الوحي لم يستطع العقل إدراكه منفرداً، ويدخلون فيه التحسين والتقبيح والتحليل والتحريم.
    والحاصل أنهم في صفات الله جعلوا العقل حاكماً، وفي إثبات الآخرة جعلوا العقل عاطلاً وفي الرؤية جعلوه مساوياً.
    فهذه الأمور الغيبية نتفق معهم على إثباتها لكننا نخالفهم في المأخذ والمصدر، فهم يقولون عند ذكر أي أمر منها نؤمن به لأن العقل لا يحكم باستحالته ولأن الشرع جاء به ويكررون ذلك دائماً، أما في مذهب أهل السنة والجماعة فلا منافاة بين العقل والنقل أصلاً ولا تضخيم للعقل في جانب وإهدار في جانب وليس هناك أصل من أصول العقيدة يستقل العقل بإثباته أبداً، كما أنه ليس هناك أصل منها لا يستطيع العقل إثباته أبداً.
    فالإيمان بالآخرة وهو أصل كل السمعيات، ليس هو في مذهب أهل السنة والجماعة سمعياً فقط؛ بل إن الأدلة عليه من القرآن هي في نفسها عقلية كما أن الفطر السليمة تشهد به، فهو حقيقة مركوزة في أذهان البشر ما لم يحرفهم عنها حارف.
    لكن لو أن العقل حكم باستحالة شيء من تفصيلاته فرضاً وجدلاً فحكمه مردود وليس إيماننا به متوقفاً على حكم العقل.
    وغاية الأمر أن العقل قد يعجز عن تصوره، أما أن يحكم باستحالته فغير وارد ولله الحمد.
  13. الثالث عشر: التكفير

    التكفير عند أهل السنة والجماعة حق لله تعالى لا يطلق إلا على من يستحقه شرعاً، ولا تردد في إطلاقه على من ثبت كفره بشروطه الشرعية.
    أما الأشاعرة فهم مضطربون اضطراباً كبيراً فتارةً يقولون: نحن لا نكفر أحداً، وتارة يقولون: نحن لا نكفر إلا من كفرنا، وتارة يكفرون بأمور لا تستوجب أكثر من التفسيق أو التبديع، وتارة يكفرون بأمور لا توجب مجرد التفسيق، وتارة يكفرون بأمور هي نفسها شرعية ويجب على كل مسلم أن يعتقدها.
    فأما قولهم لا نكفر أحداً فباطل قطعاً، إذ في المنتسبين إلى الإسلام فضلاً عن غيرهم كفار لا شك في كفرهم.
    وأما قولهم لا نكفر إلا من كفرنا فباطل كذلك، إذ ليس تكفير أحد لنا بمسوغ أن نكفره إلا إذا كان يستحق ذلك شرعاً.
    وأما تكفير من لا يستحق سوى التبديع فمثل تصريحهم في أغلب كتبهم بتكفير من قال: إن الله جسم لا كالأجسام وهذا ليس بكافر بل هو ضال مبتدع لأنه أتى بلفظ لم يرد به الشرع، والأشاعرة تستعمل ما هو مثله وشر منه.
    وأما تكفير من لا يستحق حتى مجرد الفسق أو المعصية فكما مر في الفقرة السابعة من تكفيرهم من قال: إن النار علة الإحراق والطعام علة الشبع.
    وأما التكفير بما هو حق في نفسه يجب اعتقاده فنحو تكفيرهم لمن يثبت علو الله ومن لم يؤمن بالله على طريقة أهل الكلام، وكقولهم: إن الأخذ بظواهر النصوص من أصول الكفر، وكقولهم: إن عبادة الأصنام فرع عن مذهب المشبهة ويعنون بهم أهل السنة والجماعة.
    ومن شواهد ذلك تكفير بعضهم قديماً وحديثاً لـشَيْخ الإِسْلامِ ابن تيمية وابن القيم، وحسبك ما في كتب الكوثري وتلميذه مؤلف براءة الأشعريين. .
  14. الرابع عشر: الصحابة والإمامة

    من خلال استعراضي لأكثر أمهات كتب الأشاعرة وجدت أن موضوع الصحابة هو الموضوع الوحيد الذي يتفقون فيه مع أهل السنة والجماعة وقريب منه موضوع الإمامة.
    ولا يعني هذا الاتفاق التام، بل هم مخالفون في تفصيلات كثيرة لكنها ليست داخلة في بحثنا هنا لأن غرضنا -كما في سائر الفقرات- إنما هو المنهج والأصول.
  15. الخامس عشر: الصفات

    والحديث عنها يطول، وتناقضهم وتحكمهم فيها أشهر وأكثر، وكل مذهبهم في الصفات مركب من بدع سابقة، وأضافوا إليه بدعاً أحدثوها فأصبح غاية للتلفيق المتنافر.
    ولن أتحدث عن هذا الباب هنا لأنني التزمت ببيان الأصول التي خالفوا فيها أهل السنة والجماعة عدا الصفات.
    أما مخالفتهم في الصفات فمعروفة وإن كان كثير من أسس نظرياتهم فيها يحتاج لتجلية ونسف.
    ولعل هذا ما يكون في الرد المتكامل بإذن الله.
    هل بقي شك؟
    بعد هذه المخالفات المنهجية في أبواب العقيدة كلها وبعد هذا التميز الفكري الواضح لمذهب الأشاعرة إضافة إلى التميز التاريخي.
    هل بقي شك في خروجهم عن مذهب أهل السنة والجماعة الذي هو مذهب السلف الصالح؟
    لا أظن أي عارف بالمذهبين ولو من خلال ما سبق هنا يتصور ذلك.
    ومع هذا فسوف أضيف فوارق منهجية أخرى وضوابط في علم الفرق والمقالات لا يشك في صدقها مطلع، بل سأكتفي بفارق وضابط واحد.